فصل: ذكر عدة حوادث

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **


  ذكر عدة حوادث

في هذه السنة هبت ريح سوداء مظلمة بالديار الجزرية والعراق وغيرها وعمت اكثر البلاد من الظهر إلى أن مضى من الليل ربعه وبقيت الدنيا مظلمة لا يبصر الإنسان صاحبه وكنت حينئذ بالموصل فصلينا الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة على الظن والتخمين وأقبل الناس على التوبة والتضرع والاستغفار وظنوا ان القيامة قد قامت فلما مضى مقدار ربع الليل زال ذاك الظلام والعتمة التي غطت السماء فنظرنا فرأينا النجوم فعلمنا مقدار ما مضى من الليل لأن الظلام لم يزدد بدخول الليل وكان كل من يصل من جهة من الجهات يخبر بمثل ذلك‏.‏

وفيها في ذي القعدة نزل شمس الدولة أخو صلاح الدين عن بعلبك وطلب عوضًا عنها الإسكندرية فأجابه صلاح الدين إلى ذلك واقطع بعلبك لعز الدين فرخشاه ابن أخيه فسار إليها وجمع أصحابه وأغار على بلاد الفرنج حتى وصل إلى قلعة صفد وهي مطلة على طبرية فسبى وأسر وغنم وخرب وفعل بالفرنج أفاعيل عظيمة‏.‏

وأما شمس الدولة فإنه سار إلى مصر وأقام بالإسكندرية وإذا أراد الله أن يقبض رجلًا بأرض جعل له إليها حاجة فإنه أقام بها إلى أن مات بها‏.‏

اوفيها قارب الجامع الذي بناه مجاهد الدين قايماز بظاهر الموصل منجهة باب الجسر الفراغ وأقيمت فيه الصلوات الخمس والجمعة وهو من احسن الجوامع‏.‏

وفيها توفي أحمد بن عبد الرحمن الصوفي شيخ رباط الزوزني وسمع الحديث وكان يصوم الدهر وعبد الحق بن عبد الخالق بن يسف سمع الحديث ورواه وهو من بيت الحديث والقاضي عمر بن علي بن الخضر أبو الحسن الدمشقي سمع الحديث ورواه وولي قضاء الحريم وعلي بن أحمد الزيدي سمع الحديث الكثير وله وقف كتب كثيرة ببغداد وكان زاهدًا خيرًا صالحًا ومحمد بن علي بن حمزة أبو علي الأقساسي نقيب العلويين بالكوفة وكان ينشد كثيرًا‏:‏ رب قوم في خلائقهم عرر قد صيروا غررًا ستر المال القبيح لهم سترى إن زال ما سترا ومحمد بن محمد بن عبد الكريم المعروف بابن سديد الدولة الأنباري كاتب الإنشاء بعد أبيه وأبو الفتوح بصر بن عبد الرحمن الدامغاني الفقيه كان مناظرًا حسن المناظرة كثير العبادة ودفن عند قبر أبي حنيفة‏.‏

  ثم دخلت سنة ست وسبعين وخمسمائة

  ذكر وفاة سيف الدين صاحب الموصل وولاية أخيه عز الدين بعده

في هذه السنة ثالث صفر توفي سيف الدين غازي بن مودود بن زنكي صاحب الموصل وديار الجزيرة وكان مرضه السل وطال به ثم أدركه في آخره سرسام ومات‏.‏

ومن عجيب ما يحكى ان الناس خرجوا سنة خمس وسبعين يستسقون لانقطاع الغيث وشدة الغلاء وخرج سيف الدين في موكبه فثار به الناس وقصدوه بالاستغاثة وطلبوا منه ان يأمر بالمنع من بيع الخمر فأجابهم إلى ذلك فدخلوا البلد وقصدوا مساكن الخمارين وخربوا أبوابها ودخلوها ونهبوها وأراقوا ما بها من خمور وكسروا الظروف وعملوا ما لا يحل فاستغاث أصحاب الدور إلى نواب السلطان وخصوا بالشكوى رجلًا من الصالحين يقال له أبو الفرج الدقاق ولم يكن له يد في الذي فعله العامة من النهب وما لا يجوز فعله إنما هو أراق الخمور ونهى العامة على الذي يفعلونه فلم يسمعوا منه فلما شكى الخمارون منه أحضر بالقلعة وضرب على رأسه فسقطت عمامته فلما أطلق لينزل من القلعة نزل مكشوف الرأس فأرادوا تغطيته بعمامته فلم يفعل وقال‏:‏ والله لا غطيت رأسي حتى ينتقم الله لي ممن ظلمني‏!‏ فلم يمض غير أيام حتى توفي الدزدار الذي تولى أذاه ثم بعقبه موت سيف الدين واستمر بها إلى أن مات وعمره حينئذ نحو ثلاثين سنة‏.‏

وكانت ولايته عشر سنين وثلاثة أشهر وكان حسن الصورة مليح الشباب تام القامة ابيض اللون وكان عاقلًا وقورًا قليل الالتفات إذا ركب وإذا جلس عفيفًا لم يذكر عنه ما ينافي العفة‏.‏

وكان غيورًا شديد الغيرة لا يدخل دوره غير الخدم الصغار فإذا كب أحدهم منعه وكان لا يحب سفك الدماء ولا أخذ الأموال على شح فيه وجبن‏.‏

ولما اشتد مرضه أراد ان يعهد بالملك لابنه معز الدين سنجر شاه وكان عمره حينئذ اثنتي عشر سنة فخاف على الدولة من ذلك لأن صلاح الدين يوسف بن أيوب كان قد تمكن بالشام وقوي أمره وامتنع أخوه عز الدين مسعود بن مودود من الإذعان لذلك والإجابة إليه فأشار الأمراء الأكابر ومجاهد الدين قايماز بأن يجعل الملك بعده في عز الدين أخيه لما هو عليه من الكبر في السن والشجاعة والعقل وقوة النفس وأن يعطي ابنيه بعض البلاد ويكون مرجعهما إلى هز الدين عمهما والمتولي لأمرهما مجاهد الدين قايماز ففعل ذلك وجعل الملك في أخيه وأعطى جزيرة ابن عمر وقلاعها لولده سنجر شاه وقلعة عقر الحميدية لولده الصغير ناصر الدين كسك‏.‏

فلما توفي سيف الدين ملك بعده الموصل والبلاد أخوه عز الدين وكان المدبر للدولة مجاهد الدين وهو الحاكم في الجميع واستقرت الأمور ولم يختلف اثنان‏.‏

  ذكر مسير صلاح الدين لحرب قلج أرسلان

في هذه السنة سار صلاح الدين يوسف بن أيوب من الشام إلى بلاد قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان وهي ملطية وسيواس وما بينهما وقونية ليحاربه‏.‏

وسبب ذلك أن نور الدين محمد بن قرا أرسلان بن داود صاحب حصن كيفا وغيره من ديار بكر كان قد تزوج ابنة قلج أرسلان المذكور وبقيت عنده مدة ثم إنه أحب مغنية فتزوجها ومال إليها وحكمت في بلاده وخزائنه واعرض عن ابنة قلج أرسلان وتركها نسيًا منسيًا فبلغ أباها الخبر فعزم على قصد نور الدين واخذ بلاده فأرسل نور الدين إلى صلاح الدين يستجير به ويسأله كف يد قلج ارسلان عنه فأرسل صلاح الدين إلى قلج أرسلان في المعنى فأعاد الجواب‏:‏ إنني كنت قد سلمت إلى نور الدين عدة حصون مجاورة بلاده لما تزوج ابنتي فحيث آل الأمر معه إلى ما تعلمهن فأنا أريد أن يعيد إلي ما أخذه مني‏.‏

وترددت الرسل بينهما فلم يستقر حال فيها فهادن صلاح الدين الفرنج وسار في عساكره وكان الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين محمود صاحب حلب فيها فتركها ذات اليسار وسار على تل باشر إلى رعبان فأتاه بها نور الدين محمد وأقام عنده فلما سمع قلج أرسلان بقربه منه أرسل إليه أكبر أمير عنده ويقول له‏:‏ إن هذا الرجل فعل مع ابنتي كذا ولا بد من قصد بلاده وتعريفه محل نفسه فلما وصل الرسول واجتمع بصلاح الدين وأدى الرسالة امتعض صلاح الدين لذلك واغتاظ وقال للرسول‏:‏ قل لصاحبك والله الذي لا غله إلا هو لئن لم يرجع لأسيرن إلى ملطية وبيني وبينها يومان ولا أنزل عن فرسي إلا في البلد ثم أقصد جميع بلاده وآخذها منه‏.‏

فرأى الرسول أمرًا شديدًا فقام من عنده وكان قد رأى العسكر وما هو عليه من القوة والتجمل وكثرة السلاح والدواب وغير ذلك وليس عنده ما يقاربه فعلم أنه إن قصدهم أخذ بلادهم فأرسل إليه من الغد يطلب أن يجتمع به فأحضره فقال له‏:‏ أريد أن أقول شيئًا من عندي ليس رسالة من عند صاحبي واحب ان تنصفني‏.‏

فقال له‏:‏ قل‏!‏‏!‏ قال‏:‏ يا مولانا ما هو قبيح بمثلك وأنت من اعظم السلاطين وأكبرهم شأنًا أن تسمع الناس عنك انك صالحت الفرنج وتركت الغزو ومصالح المملكة وأعرضت عن كل ما فيه صلاح لك ولرعيتك وللمسلمين عامة وجمعت العساكر من أطراف البلاد البعيدة والقريبة وسرت وخسرت أنت وعساكرك الأموال الكثيرة من أجل قحبة مغنية ما يكون عذرك عند الله تعالى ثم عند الخليفة وملوك الإسلام والعالم كافة واحسب ان أحدًا ما يواجهك بهذا أما يعلمون أن الأمر هكذا ثم احسب أن قلج ارسلان مات وهذه ابنته أرسلتني إليك تستجير بك وتسألك أن تنصفها من زوجها فإن فعلت فهو الظن بك أن لا تردها‏.‏

فقال‏:‏ والله الحق بيدك وإن الأمر لكما تقولن ولكن هذا الرجل دخل علي وتمسك بي ويقبح بي تركه لكنك أنت اجتمع به واصلح الحال بينكم على ما تحبون وأنا أعينكم عليه وأقبح فعله عنده ووعد من نفسه بكل جميل فاجتمع الرسول بصاحب الحصن وتردد القول بينهم فاستقر أن صاحب الحصن يخرج المغنية من عنده بعد سنة وإن كان لا يفعل ينزل صلاح الدين عن نصرته ويكون هو وقلج أرسلان عليه واصطلحوا على ذلك وعاد صلاح الدين عنه إلى الشام وعاد نور الدين إلى بلاده فلما انقضت المدة أخرج نور الدين المغنية عنه فتوجهت إلى بغداد وأقامت بها إلى أن ماتت‏.‏

  ذكر قصد صلاح الدين بلد ابن ليون

وفيها قصد صلاح الدين بلد ابن ليون الأرمني بعد فراغه من أمر قلج أرسلان وسبب ذلك أن أبن ليون الأرمني قد استمال قومًا من التركمان وبذل لهم الأمان فأمرهم أن يرعوا مواشيهم في بلاده وهي بلاد حصينة كلها حصون منيعة والدخول إليها صعب لأنها مضائق وجبال وعرة ثم غدر بهم وسبى حريمهم واخذ أموالهم وأسر رجالهم بعد أن قتل منهم من حان أجله‏.‏

ونزل صلاح الدين على النهر الأسود وبث الغارات على بلاده فخاف ابن ليون على حصن له على رأس جبلن أن يؤخذ فخربه وأحرقه فسمع صلاح الدين بذلك فأسرع السير إليه فأدركه قبل أن ينقل ما فيه من ذخائر وأقوات فغنمها وانتفع المسلمون بما غنموه فأرسل ابن ليون يبذل إطلاق ما عنده من الأسرى والسبي وإعادة أموالهم على أن يعودوا عن بلاده فأجابه صلاح الدين إلى ذلك واستقر الحال وأطلق الأسرى وأعيدت أموالهم وعاد صلاح الدين عنه في ملك يوسف بن عبد المؤمن مدينة قفصة

  ذكر ملك يوسف بن عبد المؤمن مدينة قفصة بعد خلاف صاحبها عليه

في هذه السن ة سار أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن إلى إفريقية وملك قفصة‏.‏وكان سبب ذلك أن صاحبها ابن عبد المعز بن المعتز لما رأى دخول الترك إلى إفريقية واستيلائهم على بعضها وانقياد العرب إليهم طمع أيضًا في الاستبداد والانفراد عن يوسف وكان في طاعته فأظهر ما في نفسه وخالفه وأظهر العصيان ووافقه أهل قفصة فقتلوا كل من كان عندهم من الموحدين أصحاب أبي يعقوب وكان ذلك في شوال سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة فأرسل والي بجاية إلى يوسف بن عبد المؤمن يخبره باضطراب أمور البلاد واجتماع كثير من العرب إلى قراقوش التركي الذي دخل إلى إفريقية وقد تقدم

  ذكر ذلك وما جرى في قفصة من قتل الموحدين

ومساعدة أهل قفصة صاحبهم على ذلك فشرع في سد الثغور التي يخافها بعد مسيره فلما فرغ من جميع ذلك جهز العسكر وسار نحو إفريقية سنة خمس وسبعين ونزل على مدينة قفصة وحصرها ثلاثة أشهرن وهي بلدة حصينة وأهلها أنجاد وقطع شجرها‏.‏

فلما اشتد الأمر على صاحبها وأهلهان خرج منها مستخفيًا لم يعرف به أحد من أهل قفصة ولا من عسكره وسار إلى خيمة يوسف وعرف حاجبه انه قد حضر إلى أمير المؤمنين يوسف فدخل الحاجب واعلم يوسف بوصول صاحب قفصة إلى باب خيمته فعجب منه كيف أقدم على الحضور عنده بغير عهد وأمر بإدخاله عليه فدخل وقبل يده وقال‏:‏ قد حضرت أطلب عفو أمير المؤمنين عني وعن أهل بلدي وان يفعل ما هو أهله واعتذر فرق له يوسف فعفا عنه وعن أهل البلد وتسلم المدينة أول سنة ست وسبعين وسير على بن المعز صاحبها إلى بلاد المغرب فكان فيه مكرمًا عزيزًا وأقطعه ولاية كبيرة ورتب يوسف لقفصة طائفة من أصحابه الموحدين وحضر مسعود بن زمام أمير العرب عند يوسف أيضًا فعفا عنه وسيره إلى مراكش وسار يوسف إلى المهدية فاتاه بها رسول ملك الفرنج صاحب صقلية يلتمس الصلح منه فهادنه عشر سنين وكانت بلاد إفريقية مجدبة فتعذر على العسكر القوت وعلف الدواب فسار إلى المغرب مسرعًا والله أعلم‏.‏

  ذكر عدة حوادث

في هذه السنة توفي شمس الدولة تورانشاه بن أيوب أخو صلاح الدين الأكبر بالإسكندرية وكان قد أخذها من أخيه إقطاعًا فأقام بها فتوفي وكان له أكثر بلاد اليمن ونوابه هناك يحملون له الأموال من زبيد وعدن وكل ما بينهما من البلاد والمعاقل وكان أجود الناس وأسخاهم كفًا يخرج كل ما يحمل إليه من أموال اليمن ودخل الإسكندرية وحكمه في بلاد أخيه صلاح الدين وأمواله نافذ ومع هذا فلما مات كان عليه نحم مائتي ألف دينار مصرية دينًا فوفاها أخوه صلاح الدين عنه لما دخل إلى مصر فإنه لما بلغه خبر وفاته سار إلى مصر في شعبان من السنة واستخلف بالشام عز الدين فرخشاه ابن أخيه شاهتشاه وكان عاقلًا حازمًا شجاعًا‏.‏

وفيها توفي الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد بن سلفة الأصفهاني بالإسكندرية وكان حافظ الحديث وعالمًا به سافر في طلب الكثير‏.‏

وتوفي أيضًا في المحرم علي بن عبد الرحيم المعروف بابن العصار اللغوي ببغداد وسمع الحديث وكان من أصحاب ابن الجواليقي‏.‏

  ثم دخلت سنة سبع وسبعين وخمسمائة

  ذكر غزاة إلى بلد الكرك من الشام

في هذه السنة سار فرخشاه نائب صلاح الدين بدمشق إلى أعمال الكرك ونهبها‏.‏ وسبب ذلك أن البرنسن صاحب الكر كان من شياطين الفرنج ومردتهم وأشدهم عداوة للمسلمين فتجهز وجمع عسكره ومن أمكنه الجمع وعزم على المسير في البر إلى تيماء ومنها إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم للاستيلاء على تلك النواحي الشريفة فسمع عز الدين فرخشاه ذلك فجمع العساكر الدمشقية وسار إلى بلده ونهبه وخربه وعاد إلى طرف بلادهم وأقام ليمنع البرنس من بلاد الإسلام فامتنع بسببه عن مقصده فلما طال مقام كل واحد منهم في مقابلة الآخر علم البرنس أن المسلمين لا يعودون حتى يفرق جمعه ففرقهم وانقطع طمعه من الحركة فعاد فرخشاه إلى دمشق وكفى الله المؤمنين شر الكفار‏.‏

  ذكر تلبيس ينبغي أن يحتاط من مثله

كان سيف الدولة مبارك بن كامل بن منقذ الكناني ينوب عن شمس الدولة أخي صلاح الدين باليمن وتحكم في الأموال والبلاد بعد أن فارقها شمس الدولة كما ذكرنا وكان هواه بالشام لأنه وطنه فأرسل إلى شمس الدولة يطلب الإذن له المجيء إليه فأذن له في المجيء فاستناب بزبيد أخاه حطان ابن كامل بن منقذ الكناني وعاد إلى شمس الدولة وكان معه بمصر‏.‏

فمات شمس الدولة وبقي مع صلاح الدين فقيل عنه‏:‏ إنه أخذ أموال اليمن وادخرها وسعى به أعداؤه فلم فلما كان هذه السنة وصلاح الدين بمصر اصطنع سيف الدولة طعامًا وعمل دعوة كبيرة ودعا إليها أعيان الدولة الصلاحية بقرية تسمى العدوية‏.‏

وأرسل أصحابه يتجهزون من البلد ويشترون ما يحتاجون إليه من الأطعمة وغيرها فقيل لصلاح الدين أن ابن منقذ يريد الهرب وأصحابه يتزودون له ومتى دخل اليمن أخرجه عن طاعتك فأرسل صلاح الدين فأخذه والناس عنده وحبسه فلما سمع صلاح الدين جلية الحال علم أن الحيلة تمت لأعدائه في قبضه فخفف ما كان عنده عليه وسهل أمره وصانعه على ثمانين ألف دينار مصرية سوى ما لحقها من الحمل لأخوة صلاح الدين وأصحابه وأطلقه وأعاده إلى منزلته وكان أديبًا شاعرًا‏.‏

  ذكر إرسال صلاح الدين العساكر إلى اليمن

في هذه السنة سير صلاح الدين جماعة من أمرائه منهم صارم الدين قتلغ أبه والي مصر إلى اليمن للاختلاف الواقع بها بين نواب أخيه شمس الدولة وهم عز الدين عثمان بن الزنجيلي والي عدن وحطان بن منقذ والي زبيد وغيرهما فإنهم لما بلغهم وفاة صاحبهم اختلفوا وجرت بين عز الدين عثمان وبين حطان حرب وكل واحد منهما يروم أن يغلب الآخر على ما بيده واشتد الأمر فخاف صلاح الدين أن يطمع أهل البلاد فيها بسبب الاختلاف بين أصحابه وأن يخرجوهم ثم مات قتلغ أبه فعاد حطان إلى إمارة زبيد وأطاعه الناس لجوده وشجاعته‏.‏

  ذكر وفاة الملك الصالح وملك ابن عمه عز الدين مسعود مدينة حلب

في هذه السنة في رجب توفي الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين محمود صاحب حلب بها وعمره نحو تسع عشرة سنة ولما اشتد مرضه وصف له الأطباء شرب الخمر للتداوي فقال‏:‏ لا أفعل حتى أستفتي الفقهاء فاستفتى فأفتاه فقيه من مدرسي الحنفية بجواز ذلك فقال له‏:‏ أرأيت إن قدر الله تعالى بقرب الأجل أيؤخره شرب الخمر فقال له الفقيه‏:‏ لا فقال‏:‏ والله لا لقيت الله سبحانه وقد استعملت ما حرمه علي ولم يشربها‏.‏

فلما أيس من نفسه أحضر الأمراء وسائر الأجناد ووصاهم بتسليم البلد إلى ابن عمه عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي واستحلفهم على ذلك فقال له بعضهم‏:‏ إن عماد الدين ابن عمك أيضًا وهو زوج أختك وكان والدك يحبه ويؤثره وهو تولى تربيته وليس له غير سنجار فلو أعطيته البلد لكان أصلحن وعز الدين له من البلاد من نهر الفرات إلى همذان ولا حاجة به إلى بلدك فقال له‏:‏ إن هذا لم يغب عني ولكن قد علمتم أن صلاح الدين قد تغلب على عامة بلاد الشام سوى ما بيدي ومتى سلمت حلب إلى عماد الدين يعجز عن حفظها وإن ملكها صلاح الدين لم يبق لأهانا معه مقام وإن سلمتها إلى عز الدين أمكنه حفظها بكثرة عساكره وبلاده‏.‏

فاستحسنوا قوله وعجبوا من جودة فطنته مع شدة مرضه وصغر سنه‏.‏

ثم مات وكان حليمًا كريمًا عفيف اليد والفرج واللسان ملازمًا للدين لا يعرف له شيء مما يتعاطاه الملوك والشباب من شرب خمر أو غيره حسن السيرة في رعيته عادلًا فيهم‏.‏

ولما قضى نحبه أرسل الأمراء إلى أتابك عز الدين يستدعونه إلى حلب فسار هو ومجاهد الدين قايماز إلى الفرات وأرسل فأحضر الأمراء عنده من حلب فحضروا وساروا جميعًا إلى حلب ودخلها في العشرين من شعبان وكان صلاح الدين حينئذ بمصر ولولا ذلك لزاحمهم عليها وقاتلهم فلما اجتاز طريقه إلى الفرات كان تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين بمدينة منبج فسار عنها هاربًا إلى حماة وثار أهل حماة ونادوا بشعار عز الدين فأشار عسكر حلب على عز الدين بقصد دمشق وأطمعوه فيها وفي غيرها من بلاد الشام وأعلموه محبة أهلها له ولأهل بيته فلم يفعل وقال‏:‏ بيننا يمين فلا نغدر به وأقام بحلب عدة شهور ثم سار عنها إلى الرقة‏.‏

وأخذ سنجار عوضًا عنها لما وصل عز الدين إلى الرقة جاءته رسل أخيه عماد الدين صاحب سنجار يطلب أن يسلم إليه حلب ويأخذ عنها مدينة سنجار فلم يجبه إلى ذلك ولج عماد الدين وقال‏:‏ إن سلمتم إلي حلب وإلا سلمت أنا سنجار إلى صلاح الدين فأشار حينئذ جماعة من الأمراء بتسليمها إليه وكان أشدهم في ذلك مجاهد الدين قايماز فلم يمكن عز الدين مخالفته لتمكنه في الدولة وكثرة عساكره وبلاده وإنما حمل مجاهد الدين على ذلك خوفه من عز الدين لأنه عظم في نفسه وكثر معه العسكر‏.‏

وكان الأمراء الحلبيون لا يلتفتون إلى مجاهد الدين ولا يسلكون معه من الأدب ما يفعله عساكر الموصل فاستقر الأمر على تسليم حلب إلى عماد الدين واخذ سنجار بدلًا عنها فسار عماد الدين فتسلمها وسلم سنجار إلى أخيه وعاد إلى الموصل‏.‏

وكان صلاح الدين بحلب قد وصله خبر ملك عز الدين حلب فعظم عليه الأمر وخاف أن يسير منها إلى دمشق وغيرها ويملك الجميع وأيس من حلب فلما بلغه خبر ملك عماد الدين لها برز من يومه وسار إلى الشام وكان من الوهن على دولة عز الدين ما نذكره إن شاء الله‏.‏

كانت قلعة البيرة وهي مطلة على الفرات من أرض الجزيرة لشهاب الدين الآرتقي وهو أبن عم قطب الدين إيلغازي بن ألبي بن تورتاش بن إيلغازي بن ارتق صاحب ماردين وكان في طاعة نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام فمات شهاب الدين وملك القلعة بعده ولده وصار في طاعة عز الدين مسعود صاحب الموصل‏.‏

فلما كان هذه السنة أرسل صاحب ماردين إلى عز الدين يطلب منه أن يأذن له في حصر البيرة وأخذها فأذن له في ذلك فسار في عسكره إلى قلعة سميساط وهي له ونزل بها وسير العسكر إلى البيرة فحصرها فلم يظفر منها بطائل إلا أنهم لازموا الحصار فأرسل صاحبها إلى صلاح الدين وقد خرج من ديار مصر على ما نذكره يطلب منه أن ينجده ويرحل العسكر المارديني عنه ويكون هو في خدمته كما كان أبوه في خدمة نور الدين فأجابه إلى ذلك وأرسل رسولًا إلى صاحب ماردين يشفع فيه ويطلب أن يرحل عسكره عنه فلم يقبل شفاعته‏.‏

واشتغل صلاح الدين بما نذكره من الفرنج فلما رأى صاحب ماردين طول مقام عسكره على البيرة ولم يبلغوا منها غرضًا أمرهم بالرحيل عنها وعاد إلى ماردين فسار صاحبها إلى صلاح الدين وكان معه حتى عبر معه الفرات على ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

في هذه السنة كثرت المنكرات ببغداد فأقام حاجب الباب جماعة لإراقة الخمور وأخذ المفسدات فبينما امرأة منهم في موضع علمت بمجيء أصحاب حاجب الباب فاضطجعت وأظهرت أنها مريضة وارتفع أنينها فرأوها على تلك الحال فتركوها وانصرفوا فاجتهدت بعدهم أن تقوم فلم تقدر وجعلت تصيح‏:‏ الكرب الكرب إلى أن ماتت‏.‏

وهذا من أعجب ما يحكى‏.‏

وفيها عاشر ذي الحجة توفي الأمير همام الدين تتر صاحب قلعة تكريت بالمزدلفة كان قد استخلف الأمير عيسى ابن أخي مودود وحج فتوفي ودفن بالمعلى مقبرة مكة‏.‏

وفيها في شعبان توفي عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله بن أبي سعيد أبو البركات النحوي المعروف بابن الأنباري ببغداد وله تصانيف حسنة في النحو وكان فقيهًا صالحًا‏.‏

وفيها توفي إبراهيم بن مهران الفقيه الشافعي بجزيرة ابن عمر وكان فاضلًا كثير الورع‏.‏

  ثم دخلت سنة ثمان وسبعين وخمسمائة

  ذكر مسير صلاح الدين إلى الشام وإغارته على الفرنج

في هذه السنة خامس المحرم سار صلاح الدين عن مصر إلى الشام ومن عجيب ما يحكى من التطير أنه لما برز من القاهرة أقام بخيمته حتى تجتمع العساكر والناس عنده وأعيان دولته والعلماء وأرباب الآداب فمن بين مدع له وسائر معه وكل منهم يقول شيئًا في الوداع والفراق وما هم بصدده من السفر وفي الحاضرين معلم لبعض أولاده فاخرج رأسه من بين الحاضرين وانشد‏:‏ تمتع من شميم عرار نجد فما بعد العشية من عرار فانقبض صلاح الدين من بعد انبساطه وتطير وتنكد المجلس على الحاضرين فلم يعد إليها إلى أن مات بعد طول المدة‏.‏

ثم سار عن مصر وتبعه من التجار وأهل البلاد ومن كان قصد مصر من الشام بسبب الغلاء بالشام وغيره عالم كثير فلما سار جعل طريقه على أيلة فسمع أن الفرنج قد جمعوا له ليحاربوه ويصدوه عن المسير فلما قارب بلادهم سير الضعفاء والأثقال مع أخيه تاج الملوك بوري إلى دمشق وبقي هو في العساكر المقاتلة لا غير فشن الغارات بأطراف بلادهم وأكثر ذلك ببلد الكرك والشوبك فلم يخرج إليه منهم أحد ولا أقدم على الدنو منه ثم سار فأتى دمشق فوصلها حادي عشر صفر من السنة‏.‏

في هذه السنة أيضًا في صفر فتح المسلمون بالشام شقيفًا من الفرنج يعرف بحبس جلدك وهو من أعمال طبرية مطل على السواد‏.‏

وسبب فتحه أن الفرنج لما سمعوا بمسير صلاح الدين من مصر إلى الشام جمعوا له وحشدوا الفارس والراجل واجتمعوا بالكرك بالقرب من الطريق لعلهم ينتهزون فرصة أو يظفرون بنصرة وربما عاقوا المسلمين عن المسير بأن يقفوا على بعض المضايق فلما فعلوا ذلك خلت بلادهم من ناحية الشام فسمع فرخشاه الخبر فجمع من عنده من عساكر الشام ثم قصد بلاد الفرنج وأغار عليها ونهب دبورية وما يجاورها من القرى واسر الرجال وقتل فيهم واكثر وسبى النساء وغنم الأموال وفتح منهم الشقيف وكان على المسلمين منه أذى شديد ففرح المسلمون بفتحه فرحًا عظيمًا وأرسل إلى صلاح الدين بالبشارة فلقيه في الطريق ففت ذلك في عضد الفرنج وانكسرت شوكتهم‏.‏